ثمة سؤال فرض نفسه بعد جريمة قتل الشاب إيف نوفل في فاريا: لو أن ما حصل لهذا الشاب، حصل في التسعينات من القرن العشرين أو حتى في بداية الألفيّة الحالية، هل كانت هذه الجريمة لتحصل على هذا القدر من اهتمام الناس ومتابعتهم وردات فعلهم بهذه السرعة؟ هل كانت العدالة تحرّكت بهذه السرعة من دون أن تحوم حولها علامات استفهام وبمثل هذا الزخم؟ أم أنّ قضيّته وقصّته كانتا دُفنتا ببساطة عميقًا في غرفة تخزين ما، مع غيرها مما لا يعدّ ولا يحصى من قضايا الذين قتلوا ظلمًا وغرقوا في بطء روتين القضاء، أو الذين عاد المعتدون عليهم وكرروا جرائمهم المنكرة قبل صدور حكم القضاء؟

في معظم دول العالم، غالبًا ما يُتّهم القضاء العدلي أحياناً بالانحياز، والخضوع للتدخّلات السياسيّة والفساد، والإخفاق في تحقيق العدالة، فيما يفلت البعض من المحاسبة لتمتعهم بالحصانة الجسديّة والمعنويّة التي يوفّرها مبدأ فصل السلطات. ولكن، في العصر الرقمي الذي نعيش فيه اليوم، إلى أي مدى يمكن شبكات التواصل الاجتماعي أن تكون وسائل نفوذ وضغط وأن توفّر قوّة للمواطنين اللبنانيين في مواجهة هذا الواقع؟ عندما يخفق كل شيء آخر، هل في إمكان وسائل التواصل الاجتماعي، أو هل عليها، أن تتصرّف كعنصر مساند، أو كبديل صريح، لوسائل الإعلام التقليدية، وأن تشكّل السلطة الرابعة الجديدة؟ هل في إمكانها توفير فرصة للوصول إلى مجتمع أكثر استقامةً وعدلاً؟

لقد شهدنا في قضيّة إيف نوفل مساراً سليماً- وحتى هذا اليوم- في اتجاه تحقيق العدالة، وقد وجد القضاء نفسه في الواقع محكوماً إلى حدّ ما بسلوك سرعة هذا المسار. وإذا كان الأمر استلزم، كما درجت العادة، ويا للأسف، استخدام الوساطات الاجتماعيّة والنفوذ الشخصي، فهو لم يكن ليكون بهذه الفاعلية من دون دعم الإعلام وآلاف الناس على وسائل التواصل الاجتماعي.

لا نقلل هنا من الجهود التي بذلتها القوى الأمنيّة لحل القضية، ولا نلمّح إلى أنّ القضاء ما كان ليقوم بعمله من تلقائه وبغض النظر عن أيّ شيء آخر، ولكن مع ذلك لا يمكن إلا الإقرار بالدور الذي أدته وسائل التواصل الاجتماعي في الدفع إلى سرعة إصدار مذكّرات التوقيف والتعجيل بها، كما في الحضّ على التوقيف الفعلي للجناة في منطقة بريتال، والضغط لتوجيه الاتّهام إلى الأشخاص المشتبه بتورّطهم في هذه الجريمة المقيتة.

(#JusticeforYves)

وبالفعل، فإنّ جريمة القتل العبثيّة لهذا الشاب أطلقت موجة غضب عارمة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي حركة قادتها بشكل أساسي قوّة "هاشتاغ" (#JusticeforYves) أي (#عدالةلإيف). صور الضحيّة كما صور المرتكبين تمّ تداولها على شبكة الانترنت، والمدوّنون والصحافيّون على السواء أمّنوا، في غضون ساعات، تغطية إعلاميّة واسعة، في حين أن الأفراد عبّروا على الفور عن غضبهم مطالبين بجلب المجرمين إلى العدالة وداعين إلى تطبيق العدالة.

والأهم من ذلك أن هذا الدفق من الدعم على شبكات التواصل الاجتماعي نجح إلى حدّ كبير في كسر ما شكّك به البعض حول وجود حماية سياسيّة تردد أنّ مرتكبي الجريمة يحظون بها، وجعل أيّ محاولة إضافيّة لإعاقة العدالة أو عرقلتها من خلال حماية الجناة، بمثابة إنتحار سياسي، إذ أن الرأي العام قادر على إدانة هذا أو ذاك منهم أسرع من أيّ قاض. ومن هنا، فإن الدور الذي أدته وسائل التواصل الاجتماعي في قضيّة إيف نوفل، شاهد على أهمية وظيفتها في المجتمع، إذ نادت بتحقيق العدالة في مواجهة محاولات عرقلتها. وهذه القضيّة، كما الكثير غيرها، فضحت عوارض حالة بنيويّة وغالبًا أكثر انتشارًا، تتمثّل في اتهامات حول محاولات التدخّل السياسيّة الدائمة في التعامل القضائيّ مع مختلف القضايا

دور محوري

إن وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي أصلاً دورًا محوريًا في عصرنا، إن بتناقلها الأخبار أو بنشرها الترهات. وتالياً، ماذا لو تم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للقيام بأكثر من ذلك؟ ماذا لو تم استخدام عالم الإنترنت لتغيير عالمنا الحقيقي المخيّب للآمال؟

إنّ وسائل التواصل الاجتماعي، وقوّة التعاضد التي تنبثق منها، تمكّن الناس من أن يفرضوا ما يجب أن تتم تغطيته، وما يجب أن يُعطى أولويّة، بدلاً من تحمّل المحتوى الذي غالبًا ما تريدهم وسائل الإعلام المسيّسة أن يستهلكوه. وقد أثبت غضب الجمهور في قضيّة إيف أنّ بإمكان وسائل التواصل الاجتماعي أن تعيد التوازن إلى "اللعبة"، وأن تمنع أيّ تعتيم إعلامي وأيّ تدخّل سياسي. كذلك برهن التفاعل الشعبي مع الجريمة عبر وسائل التواصل الإجتماعي أنّ هذه الوسائل تستطيع، جنباً إلى جنب مع الإعلام التقليدي، أن تكون سنداً فاعلاً للقضاء، عبر فضح أيّ تدخّل في الإجراءات القضائيّة وإلقاء الضوء على كل ما يمكن أن يهدّد استقلاليّته. ولكن هل ثمة ما يضمن ألاّ يكون دور وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي مضرّاً لا مفيداً؟ وإلى أي مدى ينبغي أن نقلق من أن تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي سلباً على الإدارة الصحيحة للقضاء؟

إن سعي جمهور وسائل التواصل الاجتماعي إلى الإنتقال من مفهوم "قضاء للقادرين" إلى "قضاء للجميع"، هو قضية نبيلة، من دون أدنى شك، ولكن ألا يُخشى أن يؤدي هذا التوجه عملياً إلى الإضرار بالقضاء فيما هو يطمح إلى تحسينه؟

نظرة أخرى

في الواقع، لا بدّ من أن نضع جانباً نظرة الإعجاب بقوة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وأن نتوقف للحظة عند امتحانٍ موضوعي لما قد يحدّ من إيجابية دورها، ولإمكان أن يكون لها تأثير مضرّ على القضاء بشكل خاص. فالقضاء سلطة يفترض بأن تكون حياديّة وغير خاضعة لأي تأثير، والقضاة يتدرّبون على أن يبقوا فوق أيّ تدخّلات أو ضغط، ويتعلّمون أن ينظروا فقط في الوقائع المقدّمة لهم كإثباتات، في حين أن على المحامين أن يلتزموا بالقواعد الأخلاقيّة. ولكن، هل إن نظامنا القانوني متين وعنده المناعة ما يكفي ليتحمّل محاكمة من قبل الإعلام، أم إن حملة سلبيّة تستمر لفترة على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي فعليًا إلى تشويش أجهزة القضاء؟ ما هي سلبيات وعواقب وجود هذا القدر من السلطة في أيدي الرأي العام؟

إن التشكيك في عدالة النظام القضائي التقليدي رائج وقابل للتصاعد في عالم غالبًا ما يعامل فيه الغني النافذ بغير ما يعامل الفقير المعدوم، وحيث الشركات، والسياسيّون والمشاهير، قادرون على الإفلات من عواقب جرائمهم بينما لا يستطيع الأفراد العاديون ذلك، وحيث مجموعات الضغط قادرة على أن تفصّل القوانين والأنظمة على قياس مصالحها بدلاً من أن تؤمّن هذه التشريعات المصلحة العليا للمجتمع. وتالياً، فإن الناس الذين لا يثقون ثقة عمياء وكاملة بقدرة النظام القضائي الحالي على حمايتهم وتأمين حقوقهم، باتوا يؤثرون اللجوء إلى نظام عدالة بديل يمكن أن نطلق عليه تسمية "محكمة الرأي العام". وعلى خلاف نظام المحاكم التقليدي حيث الوقائع والقوانين هي المرجع، تقوم "محكمة الرأي العام" على السمعة. وفيها، تسمو المشاعر على العدالة، ويغلب القيل والقال على الدقّة. وفي حين أنّ فرضيّة كل متّهم بريء حتى تثبت إدانته هي أساس كل محكمة، فإنّها غالبًا مستبدلة بفرضيّة الذنب أمام "محكمة الرأي العام"، ومثل هذا الذنب يبقى في الأذهان حتى بعد البراءة.

قضية بيل كوسبي نموذجاً

تشكّل قضية الممثل الأميركي بيل كوسبي التي برزت أخيراً في الولايات المتحدة، المثال الأبرز على كيفية تحوّل وسائل التواصل الإجتماعي محكمة تصدر أحكاماً مبرمة. فهذا الممثل الكوميدي الذي كان حتى الأمس القريب محبوباً ويحظى بالاحترام العالمي، تحوّل بين ليلة وضحاها منبوذاً من الرأي العام حتى قبل أن تتم محاكمته رسميًا. وقد أصدر الرأي العام في حقه حكماً قاطعاً بأنه مذنب، بعد أن تقدّمت على الأقل 12 امرأة باتهامات بحقّه تتعلّق باعتداءات جنسيّة واغتصاب تعود إلى ستينات القرن العشرين. وفي حين أنّ بيل كوسبي، ومن دون أدنى شك، خسر سلفاً أمام محكمة الرأي العام، يبقى أن نرى ما إذا كان سيلاقي المصير ذاته أمام محكمة قانونيّة. بالإضافة إلى ذلك، وبغض النظر ما إذا كان ارتكب أو لم يرتكب ما اتّهم به، فإنّ شيئًا واحدًا مؤكّد، وهو أن سمعته شوّهت بشكل لا رجعة فيه.

لطالما كانت السمعة أمراً أساسياً، ولكن هل باتت أهميتها مضاعفة في مجتمع اليوم الذي تربطه الشبكات، وينتشر فيه ما يسيء إلى السمعة كالنار في الهشيم؟ ففي الواقع، ليست "محكمة الرأي العام" مفهوماً جديداً، ومحاكمات الرأي العام وجدت منذ أن وجدت وسائل الإعلام الجماهيرية. ونذكر جميعاً "السيرك الإعلامي" الذي رافق محاكمة لاعب كرة القدم الأميركية الشهير أو جي سيمبسون قبل سنوات. لكنّ وسائل التواصل الإجتماعي جاءت لتُفاقم هذه الظاهرة، غير انها لم تَسلم من الإنتقادات.

محاكم الرأي العام

لا شك في أنّ محاكم الرأي العام ليست معصومة من الخطأ...والعواقب السلبية. ففي حين أنّ السرعة التي تنتقل بها المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة حين يتعلّق الأمر بنشر الأخبار، يمكن أن تكون مؤذية أيضاً حين تتعلّق بمواضيع تتطلّب منطقًا وحكمًا، لاسيّما أن قصّة محبوكة بشكل جيّد تنتشر أسرع بكثير من الوقائع الملموسة. ففي حين أنّ تقدّم المسار القضائي بطيء ويتطلّب عقلانيّة ودقة، تشكّل السرعة عنصراً ملازماً لطبيعة شبكات التواصل الاجتماعي وأحد أهم مستلزماتها. وهذا الطابع الآني الذي يميّز تناقل الخبر عبر وسائل التواصل الإجتماعي، غالبًا ما يُفضي إلى أحكام متسرّعة وتنجم عنه تأكيدات قابلة للجدل، من دون فرصة للعودة خطوة إلى الوراء من أجل الشروع في تفكير نقدي وتحليل عميق يسبق إطلاق وإصدار الأحكام.

إن تغريد وإعادة تغريد مزاعم خاطئة، أو نشر ومشاركة وقائع مغلوطة، يساهم في تحوير الحقيقة وتغييب الإنصاف والعدالة. من هنا، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي، عندما تستعمل بأسلوب مرتجل، يمكنها بسهولة أن تدمّر سمعة شخص ما وأن تهدّد حياته المهنيّة وعلاقاته وحياته، أو أن تسبب له مشكلة عاطفيّة في غير محلها. ويحضرنا هنا مثال الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي تساءل علناً خلال مقابلة شكّلت عودته إلى عالم السياسة "من سيعيد إليّ شرفي؟"، وكان بذلك يشير إلى أنّ الضرر وقع بغض النظر من تبرئته في قضيّتي "بيتانكور" و"كراتشي".

عوامل تعيق العدالة

خلاصة القول إن طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي تنطوي على عوامل كثيرة تعيق تحقيق العدالة بدلاً من أن تعززها. فمن خلال عدم تمييزها، يمكنها أن تحوّل أيّ فرد، سواء أكان مطّلعاً أو لم يكن، إلى منبر إعلامي، ويمكنها جعل مسائل معقّدة تبدو مسطحة وبسيطة، وبذلك تجرّد هذه المسائل من العمق، وبفعل عدم تقيّدها بأية قواعد تتعلق بصحة الخبر ومكانه وزمانه، يمكنها قصدًا تجاهل وقائع وتأكيد أحكام وانحيازات مسبقة بدلاً من رفضها. وباختصار، يمكنها أن تجعل الحجم أهم من الدقة، والوتيرة أهم من المضمون، وإثارة الحماسة والغرائز أهم من الإقناع ونصرة الحق.

ومع ذلك، ورغم هذه السلبيات، تبقى وسائل التواصل الاجتماعي أداة شديدة الفاعلية، تتسم بقدرة انتشار لا تقاس، تطال عدداً كبيراً من الناس، ولها تأثير كبير على آرائهم وخياراتهم، وتُعتَبَر الأكثر مساواة بين وسائل الإعلام التي يمكن استخدامها لاستنفار عدد كبير من الناس من أجل تحقيق هدف محدّد. وتالياً، يمكن استخدامها لإدانة السياسيّين والمسؤولين الذين يتجاهلون القوانين أو يتلكأون في تنفيذ ما يقولونه، ولانتقاد مكامن الخلل في مؤسّساتنا، ولرصد التجاوزات لحقوق الانسان، أو لفضح حالات فساد، وتحويلها قضايا رأي بما يضمن حصول المساءلة في شأنها واستحالة طمسها أو التعتيم عليها. وبهذا المعنى، يمكن شبكات التواصل الإجتماعي أن تنسج خيوط العدالة، وأن تضمن إيقاع المجرمين والفاسدين في..."شبكاتها".

لا أحد قادر...ولكن

في المحصّلة، عندما يفشل كل شيء آخر، يمكن للمواطنين أن يتوسلوا شبكات التواصل الاجتماعي لتحفيز الإعلام على تأدية دوره النبيل، ولهزّ السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة ونفض الغبار عنها. وإذا كنّا اليوم في طور بدء إدراك آثار وسائل التواصل الاجتماعي والرأي العام على القضاء وعلى قضايا الحياة الواقعيّة، واكتشاف القدرات التي توفرها في هذا الإطار، فإن على المجتمع أن يهتم بالاعتبارات الأخلاقيّة والمناقبيّة التي يجب أن تكون ملازمة لوسائل التواصل الاجتماعي، من دون أن ننسى أن ثمة ميلاً إلى الإنحياز لدى الإنسان، وأن ثمة سلوكيات متأصلة في البشر ومرتبطة بطبيعتهم.